فصل: ذكر الحرب بصقلية بين المسلمين والروم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، في جمادى الآخرة، قلد أبو السائب عتبة بن عبدالله قضاء القضاة ببغداد.
وفيها، في ربيع الآخر، مات المستكفي بالله في دار السلطان، وكانت علته نفث الدم. ثم دخلت:

.سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة:

.ذكر موت الصيمري ووزارة المهلبي:

في هذه السنة توفي أبو جعفر محمد بن أحمد الصيمري، وزير معز الدولة بأعمال الجامدة، وكان قد عاد من فارس إليها، وأقام يحاصر عمران ابن شاهين، فأخذته حمى حادة مات منها.
واستوزر معز الدولة أبا محمد الحسن بن محمد المهلبي في جمادى الأولى وكان يخلف الصيمري بحضرة معز الدولة، فعرف أحوال الدولة والدواوين، فامتحنه معز الدولة، فرأى فيه ما يريده من الأمانة، والكفاية، والمعرفة بمصالح الدولة، وحسن السيرة، فاستوزره، ومكنه من وزارته فأحسن السيرة، وأزال كثيراً من المظالم، خصوصاً بالبصرة، فإن البريديين كانوا قد أظهروا فيها كثيراً من المظالم، فأزالها، وقرب أهل العلم والأدب، وأحسن إليهم، وتنقل في البلاد لكشف ما فيها من المظالم، وتخليص الأموال، فحسن أثره، رحمه الله تعالى.

.ذكر غزو سيف الدولة بلاد الروم:

في هذه السنة دخل سيف الدولة بن حمدان إلى بلاد الروم، فغزا، وأوغل فيها، وفتح حصوناً كثيراً، وسبى وغنم، فلما أراد الخروج من بلد الروم أخذوا عليه المضايق فهلك من كان معه من المسلمين أسراً وقتلاً، واسترد الروم الغنائم والسبي، وغنموا أثقال المسلمين وأموالهم، ونجا سيف الدولة في عدد يسير.

.ذكر إعادة القرامطة الحجر الأسود:

في هذه السنة أعاد القرامطة الحجر الأسود إلى مكة، وقالوا: أخذناه بأمر، وأعدناه بأمر.
وكان بجكم قد بذل لهم في رده خمسين ألف دينار، فلم يجيبوه، وردوه الآن بغير شيء في ذي القعدة، فلما أرادوا رده حملوه إلى الكوفة، وعلقه بجامعها حتى رآه الناس، ثم حملوه إلى مكة، وكانوا أخذوه من ركن البيت الحرام سنة سبع عشرة وثلاثمائة، وكان مكثه عندهم اثنتين وعشرين سنة.

.ذكر مسير الخراسانيين إلى الري:

في هذه السنة سار منصور بن قراتكين من نيسابور إلى الري في صفر، أمره الأمير نوح بذلك، وكان ركن الدولة ببلاد فارس على ما ذكرناه، فوصل منصور إلى الري وبها علي بن كامة، خليفة ركن الدولة، فسار علي عنها إلى أصبهان، ودخل منصور الري واستولى عليها، وفرق العساكر في البلاد، فملكوا بلاد الجبل إلى قرميسين، وأزالوا عنها نواب ركن الدولة، واستولوا على همذان وغيرها.
فبلغ الخبر إلى ركن الدولة، وهو بفارس، فكتب إلى أخيه معز الدولة يأمره بإنفاذ عسكر يدفع تلك العساكر عن النواحي المجاورة للعراق، فسير سبكتكين الحاجب في عسكر ضخم من الأتراك، والديلم، والعرب، فلما سار سبكتكين عن بغداد خلف أثقاله، وأسرى جريدة إلى من بقرميسين من الخراسانيين، فكبسهم وهم غارون، فقتل فيهم، وأسر مقدمهم من الحمام واسمه بجكم الخمارتكيني، فأنفذه مع الأسرى إلى معز الدولة، فحبسه مدة ثم أطلقه. فلما بلغ الخراسانية ذلك اجتمعوا إلى همذان، فسار سبكتكين نحوهم، ففارقوا همذان ولم يحاربوه، ودخل سبكتكين همذان، وأقام بها إلى أن ورد عليه ركن الدولة في شوال.
وسار منصور من الري في العساكر نحو همذان، وبها ركن الدولة، فلما بقي بينهما مقدار عشرين فرسخاً عدل منصور إلى أصبهان، ولو قصد همذان لانحاز ركن الدولة عنه، وكان ملك البلاد بسبب اختلاف كان في عسكر ركن الدولة، ولكنه عدل عنه لأمر يريده الله تعالى، وتقدم ركن الدولة إلى سبكتكين بالمسير في مقدمته، فلما أراد المسير شغب عليه بعض الأتراك مرة بعد أخرى، فقال ركن الدولة: هؤلاء أعداؤنا، ومعنا، والرأي أن نبدأ بهم؛ فواقعهم واقتتلوا، فانهزم الأتراك.
وبلغ الخبر إلى معز الدولة، فكتب إلى ابن أبي الشوك الكردي وغيره يأمرهم بطلبهم والإيقاع بهم، فطلبوهم، وأسروا منهم وقتلوا، ومضى من سلم منهم إلى الموصل، وسار ركن الدولة نحو أصبهان، ووصل ابن قراتكين إلى أصبهان، فانتقل من كان بها من أصحاب ركن الدولة، وأهله وأسبابه، وركبوا الصعب والذلول، حتى البقر والحمير، وبلغ كراء الثور والحمار إلى خان لنجان مائة درهم، وهي على تسعة فراسخ من أصبهان، فلم يمكنهم مجاورة ذلك الموضع، ولو سار إليهم منصور لغنمهم، وأخذ ما معهم، وملك ما وراءهم، إلا أنه دخل أصبهان وأقام بها.
ووصل ركن الدولة، فنزل بخان لنجان، وجرت بينهما حروب عدة أيام، وضاقت الميرة على الطائفتين، وبلغ بهم الأمر إلى أن ذبحوا دوابهم، ولو أمكن ركن الدولة الانهزام لفعل، ولكنه تعذر عليه ذلك، واستشار وزيره أبا الفضل بن العميد في بعض الليالي في الهرب، فقال له: لا ملجأ لك إلا الله تعالى، فانو للمسلمين خيراً، وصمم العزم على حسن السيرة، والإحسان إليهم، فإن الحيل البشرية كلها تقطعت بنا، وأن انهزمنا تبعونا وأهلكونا وهم أكثر منا، فلا يفلت منا أحد؛ فقال له: قد سبقتك إلى هذا.
فلما كان الثلث الأخير من الليل أتاهم الخبر أن منصوراً وعسكره قد عادوا إلى الري وتركوا خيامهم، وكان سبب ذلك أن الميرة والعلوفة ضاقت عليهم أيضاً، إلا أن الديلم كانوا يصبرون، ويقنعون بالقليل من الطعام، وإذا ذبحوا دابة أو جملاً اقتسمه الخلق الكثير منهم، وكان الخراسانية بالضد منهم لا يصبرون، ولا يكفيهم القليل، فشغبوا على منصور، واختلفوا، وعادوا إلى الري، فكان عودهم في المحرم سنة أربعين، فأتى الخبر ركن الدولة فلم يصدقه حتى تواتر عنده، فركب هو وعسكره، واحتوى على ما خلفه الخراسانية.
حكى أبو الفضل بن العميد قال: استدعاني ركن الدولة تلك الليلة، الثلث الأخير، وقال لي: قد رأيت الساعة في منامي كأني على دابتي فيروز، وقد انهزم عدونا، وأنت تسير إلى جانبي، وقد جاءنا الفرج من حيث لا نحتسب، فمددت عيني، فرأيت على الأرض خاتماً، فأخذته، فإذا فصه من فيروزج، فجعلته في إصبعي، وتبركت به، وانتبهت وقد أيقنت بالظفر، فإن الفيروزج معناه الظفر، ولذلك لقب الدابة فيروز.
قال ابن العميد: فأتانا الخبر والبشارة بأن العدو قد رحل، فما صدقنا حتى تواترت الأخبار، فركبنا، ولا نعرف سبب هربهم، وسرنا حذرين من كمين، وسرت إلى جانب ركن الدولة وهو على فرسه فيروز، فصاح ركن الدولة بغلام بين يديه: ناولني ذلك الخاتم؛ فأخذ خاتماً من الأرض فناوله إياه، فإذا هو فيروزج، فجعله في أصبعه وقال: هذا تأويل رؤياي، وهذا الخاتم الذي رأيت منذ ساعة. وهذا من أحسن ما يحكى وأعجبه.

.ذكر أخبار عمران بن شاهين وانهزام عساكر معز الدولة:

وقد ذكرنا حال عمران بن شاهين، بعد مسير الصيمري عنه، وأنه زاد قوة وجرأة، فأنفذ معز الدولة إلى قتاله روزبهان، وهو من أعيان عسكره، فنازله وقاتله، فطاوله عمران، وتحصن منه في مضايق البطيحة، فضجر روزبهان، وأقدم عليه طالباً للمناجزة، فاستظهر عليه عمران، وهزمه وأصحابه، وقتل منهم، وغنم جميع ما معهم من السلاح، وآلات الحرب، فقوي بها، وتضاعفت قوته، فطمع أصحابه في السلطان، فصاروا إذا اجتاز بهم أحد من أصحاب السلطان يطلبون منه البذرقة والخفارة، فإن أعطاهم، وإلا ضربوه واستخفوا به وشتموه.
وكان الجند لا بد لهم من العبور عليهم إلى ضياعهم ومعايشهم بالبصرة وغيرها، ثم انقطع الطريق إلى البصرة إلا على الظهر، فشكا الناس ذلك إلى معز الدولة، فكتب إلى المهلبي بالمسير إلى واسط لهذا السبب، وكان بالبصرة، فأصعد إليها، وأمده معز الدولة بالقواد والأجناد والسلاح، وأطلق يده في الإنفاق، فزحف إلى البطيحة وضيق على عمران، وسد المذاهب عليه، فانتهى إلى المضايق لا يعرفها إلا عمران وأصحابه، وأحب روزبهان أن يصيب المهلبي ما أصابه من الهزيمة، ولا يستبد بالظفر والفتح، وأشار على المهلبي بالهجوم على عمران، فلم يقبل منه، فكتب إلى معز الدولة يعجز المهلبي ويقول: إنه يطاول لينفق الأموال ويفعل ما يريد؛ فكتب معز الدولة بالعتب والاستبطاء، فترك المهلبي الحزم، وما كان يريد أن يفعله، ودخل بجميع عسكره، وهجم على مكان عمران، وكان قد جعل الكمناء في تلك المضايق، وتأخر روزبهان ليسلم عند الهزيمة.
فلما تقدم المهلبي خرج عليه وعلى أصحابه الكمناء، ووضعوا فيهم السلاح، فقتلوا، وغرقوا، وأسروا، وانصرف روزبهان سالماً هو وأصحابه، وألقى المهلبي نفسه في الماء فنجا سباحةً، وأسر عمران القواد والأكابر، فاضطر معز الدولة إلى مصالحته، وإطلاق من عنده من أهل عمران وإخوته، فأطلق عمران من في أسره من أصحاب معز الدولة، وقلده معز الدولة البطائح، فقوي واستفحل أمره.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، ليلة يوم السبت رابع عشر ذي الحجة، طلع القمر منكسفاً، وانكسف جميعه.
وفيها، في المحرم، توفي أبو بكر محمد بن أحمد بن قرابة بالموصل، وحمل تابوته إلى بغداد.
وفيها توفي أبو نصر محمد بن محمد الفارابي، الحكيم الفيلسوف، صاحب التصانيف فيها، وكان موته بدمشق، وكان تلميذ يوحنا بن حيلان، وكانت وفاة يوحنا أيام المقتدر بالله.
وفيها مات أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي النحوي، وقيل سنة أربعين. ثم دخلت:

.سنة أربعين وثلاثمائة:

.ذكر وفاة منصور بن قراتكين وأبي المظفر بن محتاج:

في هذه السنة مات منصور بن قراتكين، صاحب الجيوش الخراسانية، في شهر ربيع الأول، بعد عوده من أصبهان إلى الري، فذكر العراقيون أنه أدمن الشرب عدة أيام بلياليها، فمات فجأةً، وقال الخراسانيون إنه مرض ومات، والله أعلم.
ولما مات رجعت العساكر الخراسانية إلى نيسابور، وحمل تابوت منصور، ودفن إلى جانب والده باسبيجاب.
ومن عجيب ما يحكى أن منصوراً لما سار من نيسابور إلى الري سير غلاماً له إلى اسبيجاب ليقيم في رباط والده قراتكين الذي فيه قبره، فلما ودعه قال. كأنك بي قد حملت في تابوت إلى تلك البرية؛ فكان كما قال بعد قليل، مات وحمل تابوته إلى ذلك الرباط، ودفن عند قبر والده.
وفيها توفي أبو المظفر بن أبي علي بن محتاج ببخارى، كان قد ركب دابة أنفذها إليه أبوه، فألقته وسقطت عليه فهشمته، ومات من يومه، وذلك في ربيع الأول، وعظم موته على الناس كافة، وشق موته على الأمير نوح، وحمل إلى الصغانيان إلى والده أبي علي وكان مقيماً بها.

.ذكر عود أبي علي إلى خراسان:

وفي هذه السنة أعيد أبو علي بن محتاج إلى قيادة الجيوش بخراسان، وأمر بالعود إلى نيسابور.
وكان سبب ذلك أن منصور بن قراتكين كان قد تأذى بالجند، واستصعب إيالتهم، وكانوا قد استبدوا بالأمور دونه، وعاثوا في نواحي نيسابور، فتواترت كتبه إلى الأمير نوح بالاستعفاء من ولايتهم، ويطلب أن يقتصر به على هراة، ويولى ما بيده من أراد نوح، فكان نوح يرسل إلى أبي علي يعده بإعادته إلى مرتبته، فلما توفي منصور أرسل الأمير نوح إلى أبي علي الخلع واللواء وأمره بالمسير إلى نيسابور، وأقطعه الري وأمره بالمسير إليها، فسار عن الصغانيان في شهر رمضان، واستخلف مكانه ابنه أبا منصور، ووصل إلى مرو وأقام بها إلى أن أصلح أمر خوارزم، وكانت شاغرة، وسار إلى نيسابور، فوردها في ذي الحجة فأقام بها.

.ذكر الحرب بصقلية بين المسلمين والروم:

كان المنصور العلوي، صاحب إفريقية، قد استعمل على صقلية، سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، الحسن بن علي بن أبي الحسين الكلبي، فدخلها واستقر بها كما ذكرناه، وغزا الروم الذين بها عدة غزوات، فاستمدوا ملك قسطنطينية فسير إليهم جيشاً كثيراً، فنزلوا أذرنت، فأرسل الحسن بن علي إلى المنصور يعرفه الحال، فسير إليه جيشاً كثيفاً مع خادمه فرح، فجمع الحسن جنده مع الواصلين وسار إلى ريو، وبث السرايا في أرض قلورية، وحاصر الحسن جراجة أشد حصار، فأشرف أهلها على الهلاك من شدة العطش، ولم يبق إلا أخذها، فأتاه الخبر أن عسكر الروم واصل إليه، فهادن أهل جراجة على مال يؤدونه، وسار إلى الروم، فلما سمعوا بقربه منهم انهزموا بغير قتال، وتركوا أذرنت.
ونزل الحسن على قلعة قسانة، وبث سراياه تنهب، فصالحه أهل قسانة على مالٍ، ولم يزل كذلك إلى شهر ذي الحجة، وكان المصاف بين المسلمين وعسكر قسطنطينية ومن معه من الروم الذين بصقلية، ليلة الأضحى، واقتتلوا، واشتد القتال، فانهزم الروم، وركبهم المسلمون يقتلون ويأسرون إلى الليل، وغنموا جميع أثقالهم، وسلاحهم، ودوابهم، وسير الرؤوس إلى مدائن صقلية، وإفريقية، وحصر الحسن جراجة، فصالحوه على مال يحملونه، ورجع عنهم، وسير سرية إلى مدينة بطرقوقة، ففتحوها، وغنموا ما فيها، ولم يزل الحسن بجزيرة صقلية إلى سنة إحدى وأربعين، فمات المنصور، فسار عنها إلى إفريقية، واتصل بالمعز بن المنصور، واستخلف على صقلية ابنه أبا الحسين أحمد.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة رفع إلى المهلبي أن رجلاً يعرف بالبصري مات ببغداد، وهم مقدم القراقرية، يدعي أن روح أبي جعفر محمد بن علي بن أبي القراقر قد حلت فيه، وأنه خلف مالاً كثيراً كان يجيبه من هذه الطائفة، وأن له أصحاباً يعتقدون ربوبيته، وأن أرواح الأنبياء والصديقين حلت فيهم، فأمر بالختم على التركة، والقبض على أصحابه، والذي قام بأمرهم بعده، فلم يجد إلا مالاً يسيراً، ورأى دفاتر فيها أشياء من مذاهبهم.
وكان فيهم غلام شاب يدعي أن روح علي بن أبي طالب حلت فيه، وامرأة يقال لها فاطمة تدعي أن روح فاطمة حلت فيها، وخادم لبني بسطام يدعي أنه ميكائيل، فأمر بهم المهلبي فضربوا ونالهم مكروه، ثم إنهم توصلوا بمن ألقى إلى معز الدولة أنهم من شيعة علي بن أبي طالب، فأمر بإطلاقهم، وخاف المهلبي أن يقيم على تشدده في أمرهم فينسب إلى ترك التشيع، فسكت عنهم.
وفي هذه السنة توفي عبدالله بن الحسين بن لال أبو الحسن الكرخي الفقيه الحنفي المشهور، في شعبان، ومولده سنة ستين ومائتين، وكان عابداً معتزلياً.
وفيها توفي أبو جعفر الفقيه ببخارى. ثم دخلت:

.سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة:

.ذكر حصار البصرة:

في هذه السنة سار يوسف بن وجيه، صاحب عمان، في البحر والبر إلى البصرة فحصرها.
وكان سبب ذلك أن معز الدولة لما سلك البرية إلى البصرة، وأرسل القرامطة ينكرون عليه ذلك، وأجابهم بما ذكرناه، علم يوسف بن وجيه استيحاشهم من معز الدولة، فكتب إليهم يطمعهم في البصرة، وطلب منهم أن يمدوه من ناحية البر، فأمدوه بجمع كثير منهم، وسار يوسف في البحر، فبلغ الخبر إلى الوزير المهلبي وقد فرغ من الأهواز والنظر فيها، فسار مجداً في العساكر إلى البصرة، فدخلها قبل وصول يوسف إليها، وشحنها بالرجال، وأمده معز الدولة بالعساكر وما يحتاج إليه، وتحارب هو وابن وجيه أياماً، ثم انهزم ابن وجيه، وظفر المهلبي بمراكبه وما معه من سلاح وغيره.

.ذكر وفاة المنصور العلوي وملك ولده المعز:

في هذه السنة توفي المنصور بالله أبو الطاهر إسماعيل بن القائم أبي القاسم محمد بن عبيدالله المهدي، سلخ شوال، وكانت خلافته سبع سنين وستة عشر يوماً وكان عمره تسعاً وثلاثين سنة، وكان خطيباً بليغاً، يخترع الخطبة لوقته، وأحواله مع أبي يزيد الخارجي وغيره تدل على شجاعة وعقل.
وكان سبب وفاته أنه خرج إلى سفاقس وتونس ثم إلى قابس، وأرسل إلى أهل جزيرة جربة يدعوهم إلى طاعته، فأجابوه إلى ذلك، وأخذ منهم رجالاً معه وعاد، وكانت سفرته شهراً، وعهد إلى ابنه معد بولاية العهد، فلما كان رمضان خرج متنزهاً أيضاً إلى مدينة جلولاء، وهو موضع كثير الثمار، وفيه من الأترج ما لا يرى مثله في عظمه، يكون شيء يحمل الجمل منه أربع أترجات، فحمل منه إلى قصره.
وكان للمنصور جارية حظية عنده، فلما رأته استحسنته، وسألت المنصور أن تراه في أغصانه، فأجابها إلى ذلك ورحل إليها في خاصته، وأقام بها أياماً، ثم عاد إلى المنصورية، فأصابه في الطريق ريح شديدة وبرد ومطر، ودام عليه فصبر وتجلد، وكثر الثلج، فمات جماعة من الذين معه، واعتل المنصور علة شديدة، لأنه لما وصل إلى المنصورية أراد دخول الحمام، فنهاه طبيبه إسحاق بن سليمان الإسرائيلي عن ذلك، فلم يقبل منه، ودخل الحمام، ففنيت الحرارة الغريزية منه، ولازمه السهر، فأقبل إسحاق يعالج المرض، والسهر باقٍ بحاله، فاشتد ذلك على المنصور، فقال لبعض الخدم: أما في القيروان طبيب غير إسحاق يخلصني من هذا الأمر؟ قال: ها هنا شاب قد نشأ الآن اسمه إبراهيم؛ فأمر بإحضاره، وشكا إليه ما يجده من السهر، فجمع له أشياء منومة، وجعلت في قنينة على النار، وكلفه شمها، فلما أدمن شمها نام.
وخرج إبراهيم وهو مسرور بما فعل، وبقي المنصور نائماً، فجاء إسحاق فطلب الدخول عليه، فقيل: هو نائم؛ فقال: إن كان صنع له شيء ينام منه فقد مات؛ فدخلوا عليه فوجدوه ميتاً، فدفن في قصره، وأرادوا قتل إبراهيم، فقال إسحاق: ما له ذنب، إنما داواه بما ذكره الأطباء، غير أنه جهل أصل المرض، وما عرفتموه، وذلك أنني كنت في معالجته أنظر في تقوية الحرارة الغريزية، وبها يكون النوم، فلما عولج بالأشياء المطفئة لها علمت أنه قد مات.
ولما مات ولي الأمر بعده ابنه معد، وهو المعز لدين الله، وأقام في تدبير الأمور إلى سابع ذي الحجة، فأذن للناس فدخلوا عليه، وجلس لهم، فسلموا عليه بالخلافة، وكان عمره أربعاً وعشرين سنة.
فلما دخلت سنة ست وأربعين صعد جبل أوراس، وجال فيه عسكره، وهو ملجأ كل منافق على الملوك، وكان فيه بنو كملان، ومليلة، وقبيلتان من هوارة، لم يدخلوا في طاعة من تقدمه، فأطاعوا المعز، ودخلوا معه البلاد، وأمر نوابه بالإحسان إلى البربر، فلم يبق منهم أحد إلا أتاه، وأحسن إليهم المعز، وعظم أمره، ومن جملة من استأمن إليه محمد بن خزر الزناتي، أخو معبد، فأمنه المعز وأحسن إليه.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، في ربيع الأول، ضرب معز الدولة وزيره أبا محمد المهلبي بالمقارع مائة وخمسين مقرعة، ووكل به في داره، ولم يعزله من وزارته، وكان نقم عليه أموراً ضربه بسببها.
وفيها، في ربيع الآخر، وقع حريق عظيم ببغداد في سوق الثلاثاء، فاحترق فيه للناس ما لا يحصى.
وفي هذه السنة ملك الروم مدينة سروج، وسبوا أهلها، وغنموا أموالهم وأخربوا المساجد.
وفيها سار ركن الدولة من الري إلى طبرستان وجرجان، فسار عنها إلى ناحية نسا، وأقام بها، واستولى ركن الدولة على تلك البلاد، وعاد عنها إلى الري، واستخلف بجرجان الحسن بن فيرزان وعلي بن كامة، فلما رجع ركن الدولة عنها قصدها وشمكير، فانهزموا منه، واستردها وشمكير.
وفيها ولد أبو الحسن علي بن ركن الدولة بن بويه، وهو فخر الدولة.
وفيها توفي أبو علي إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الصفار النحوي المحدث، وهو من أصحاب المبرد، وكان مولده سنة سبع وأربعين ومائتين، وكان مكثراً من الحديث. ثم دخلت:

.سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة:

.ذكر هرب ديسم عن أذربيجان:

في هذه السنة هرب ديسم بن إبراهيم أبو سالم عن أذربيجان، وكنا قد ذكرنا استيلاءه عليها.
وأما سبب هربه عنها فإنه كان ركن الدولة بن بويه قد قبض على بعض قواده، واسمه علي بن ميسكي، فأفلت من الحبس وقصد الجبل، وجمع جمعاً وسار إلى وهسوذان أخي المرزبان، فاتفق معه وتساعدا على ديسم.
ثم إن المرزبان استولى على قلعة سميرم على ما نذكره، ووصلت كتبه إلى أخيه وعلي بن ميسكي بخلاصه، وكاتب الديلم واستمالهم، ولم يعلم ديسم بخلاصه، إنما كان يظن أن وهسوذان وعلي بن ميسكي يقاتلانه.
وكان له وزير يعرف بأبي عبدالله النعيمي، فشره إلى ماله وقبض عليه، واستكتب إنساناً كان يكتب للنعيمي، فاحتال النعيمي بأن أجابه إلى كل ما التمس منه، وضمن منه ذلك الكاتب بمال، فأطلقه ديسم، وسلم إليه كاتبه وأعاده إلى حاله.
ثم سار ديسم وخلفه بأردبيل ليحصل المال الذي بذله، فقتل النعيمي ذلك الكاتب وهرب بما معه من المال إلى علي بن ميسكي، فبلغ الخبر ديسم بقرب زنجان، فعاد إلى أردبيل، فشغب الديلم عليه، ففرق فيهم ما كان له من مال، وأتاه الخبر بمسير علي بن ميسكي إلى أردبيل في عدة يسيرة، فسار نحوه، والتقيا واقتتلا، فانحاز الديلم إلى علي، وانهزم ديسم إلى أرمينية في نفر من الأكراد، فحمل إليه ملوكها ما تماسك به.
وورد عليه الخبر بمسير المرزبان عن قلعة سميرم إلى أردبيل، واستيلاء على أذربيجان، وإنفاذه جيشاً نحوه، فلم يمكنه المقام، فهرب عن أرمينية إلى بغداد، فكان وصوله هذه السنة، فلقيه معز الدولة، وأكرمه، وأحسن إليه، فأقام عنده في أرغد عيش.
ثم كاتبه أهله وأصحابه بأذربيجان يستدعونه، فرحل عن بغداد سنة ثلاث وأربعين وطلب من معز الدولة أن ينجده بعسكر، فلم يفعل لأن المرزبان كان قد صالح ركن الدولة وصاهره، فلم يمكن معز الدولة مخالفة ركن الدولة، فسار ديسم إلى ناصر الدولة بن حمدان بالموصل يستنجده، فلم ينجده، فسار إلى سيف الدولة بالشام، وأقام عنده إلى سنة أربع وأربعين وثلاثمائة.
واتفق أن المرزبان خرج عليه جمع بباب الأبواب، فسار إليهم، فأرسل مقدم من أكراد أذربيجان إلى ديسم يستدعيه إلى أذربيجان ليعاضده على ملكها، فسار إليها، وملك مدينة سلماس، فأرسل إليه المرزبان قائداً من قواده، فقاتله، فاستأمن أصحاب القائد إلى ديسم، فعاد القائد منهزماً، وبقي ديسم بسلماس.
فلما فرغ المرزبان من أمر الخوارج عليه عاد إلى أذربيجان، فلما قرب من ديسم فارق سلماس وسار إلى أرمينية وقصد ابن الديراني وابن حاجيق لثقته بهما، فكتب المرزبان إلى ابن الديراني يأمره بالقبض على ديسم، فدافعه، ثم قبض عليه خوفاً من المرزبان، فلما قبض عليه أمره المرزبان بأن يحمله إليه، فدافعه ثم اضطر إلى تسليمه، فلما تسلمه المرزبان سلمه وأعماه، ثم حبسه، فلما توفي المرزبان قتل ديسم بعض أصحاب المرزبان خوفاً من عائلته.

.ذكر استيلاء المرزبان على سميرم:

قد ذكرنا أسر المرزبان وحبسه بسميرم؛ وأما سبب خلاصه فإن والدته، وهي ابنة جستان بن وهسوذان الملك، وضعت جماعة للسعي في خلاصه، فقصدوا سميرم، وأظهروا أنهم تجار، وأن المرزبان قد أخذ منهم أمتعة نفيسة ولم يوصل ثمنها إليهم، واجتمعوا بمتولي سميرم، ويعرف ببشير أسفار، وعرفوه ما ظلمهم به المرزبان، وسألوه أن يجمع بينهم ليحاسبوه وليأخذوا خطه إلى والدته بإيصال مالهم إليهم، فرق لهم بشير أسفار، وجمع بينهم، فطالبوه بمالهم، فأنكر المرزبان ذلك، فغمزه أحدهم، ففطن لهم واعترف لهم، وقال: حتى أتذكر مالكم، فإنني لا أعرف مقداره؛ فأقاموا هناك، وبذلوا الأموال لبشير أسفار والأجناد، وضمنوا لهم الأموال الجليلة إذا خلص مالهم عند المرزبان، فصاروا لذلك يدخلون الحصن بغير إذن، وكثر اجتماعهم بالمرزبان وأوصلوا إليه أموالاً من عند والته، وأخذوا منه ما عنده من الأموال.
وكان لبشير أسفار غلام أمرد، جميل الوجه، يحمل ترسه وزوبينه، فأظهر المرزبان لذلك الغلام محبة شديدة وعشقاً، وأعطاه مالاً كثيراً مما جاءه من والدته، فواطأه على ما يريد، وأوصل إليه درعاً ومبارد، فبرد قيده، واتفق المرزبان وذلك الغلام والذين جاؤوا لتخليص المرزبان على أن يقتلوا بشير أسفار في يوم ذكروه.
وكان بشير أسفار يقصد المرزبان كل أسبوع ذلك اليوم يفتقده وقيوده ويصبره ويعود، فلما كان يوم الموعد دخل أحد أولئك التجار، فقعد عند المرزبان، وجلس آخر عند البواب، وأقام الباقون عند باب الحصن ينتظرون الصوت، ودخل بشير أسفار إلى المرزبان، فتلطف به المرزبان، وسأله أن يطلقه، وبذل له أموالاً جليلة وإقطاعاً كثيراً، فامتنع عليه وقال: لا أخون ركن الدولة أبداً؟؟! فنهض المرزبان وقد أخرج رجله من قيده وتقدم إلى الباب، فأخذ الترس والزوبين من ذلك الغلام، وعاد إلى بشير أسفار فقتله هو وذلك التاجر الذي عنده، وثار الرجل الذي عند البواب به فقتله ودخل من كان عند باب الحصن إلى المرزبان.
وكان أجناد القلعة متفرقين، فلما وقع الصوت اجتمعوا فرأوا صاحبهم قتيلاً، فسألوا الأمان، فأمنهم المرزبان، وأخرجهم من القلعة، واجتمع إليه أصحابه وغيرهم، وكثر جمعه، وخرج فلحق بأمه وأخيه، واستولى على البلاد، على ما ذكرناه قبل.